الرئيسيةأدب وفنفكر و سياسةتاريختغريداترواقتواصل معنا

شيء من موسيقى الشعر الحساني

أحمد الصديق
أحمد الصديق
11 يناير 2017
شيء من موسيقى الشعر الحساني

(من أين جاء الإشكال في فهم الواكدي وبت “الرسلات”؟)

يرى بعض الأدباء المعاصرين أن الواكدي لا يمكن أن يوصف بأنه “بت” بسبب ما يقولون إنه اضطراب في وزنه، ويرون أنه لم يكن إلا جزءاً من محاولات الوصول إلى امريميدة وبوعمران..

وفي رأيي المتواضع أن لبتوته الطويلة ذات “الگدعات” غيرِ المحددة العدد والمواضع وجوباً، مثل الواكدي وكذلك بعض إخوته من فئة البت لكبير، قد يقع فيها اضطراب، لكنه يعود أساساً إلى الرواة “الحكايين” بسبب طولها، وغموض موسيقاها عند البعض* وتطاول الأزمنة عليها..

ومن المعروف أن الواكدي يتألف من 10 متحركات في لحمر (المصاريع أو الصدور) و8 في الكصرة أو العگرب (العجُز) حسب النماذج المشهورة، فإن وجدنا ما يخالف ذلك فينبغي أن نبحث في جميع الروايات المتداولة ونقارنها لنرجّح أقربها إلى الاتساق، أو نجمع بينها..

ومن أكثر أمثلة الواكدي تداولاً طلعة لامحمد بن خون -جد البطن الأميري في إدوعيش- ولها روايات عدة، من أصحها:

نحلال من يرحل بيها افلعوارظْ• (10 متحركات) يوغد إلى لَبَّ ميعادْ لعرايظْ• (10) ما گـيّموه اعدوه إلين گام نايظ (10) امْن آلگوط يعنَ بّوجْرانَ (8 متحركات) ما تـْـگِـدْرو• يا غدارين لفرايظ (10) تلگاو العادي بِــلانا (8)

(•افْـلعوارظ: وليس “في لعوارظ” كما جاء في روايات أخرى.. •لعرايظ: تُجنبنا الإيطاء الموجود في الروايات الأخرى.. •ما تـْـگِـدْرو: بتسكين التاء، لإيجاد گدعة، ولعله من أشكال النطق القديمة للكلمة ثم تطور لاحقاً مع جريانها على الألسنة إلى “ما اتگدو” بحذف الراء تخفيفاً، وهو المعتمد في روايات أخرى متداولة أيضاً)

هذه الرواية هي الأكثر اتساقاً مع المعروف من الواكدي، وهي من أقدم الموجود، إن لم تكن الأقدم على الإطلاق، فقد وصلتنا في تسجيل بصوت الفنان اعل ولد ايده يعود إلى خمسينيات القرن الماضي (ضمن تسجيلات أخرى لهذا الفنان عثر عليها الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير ونَشر بعضها العام الماضي، ورابط المقطع المقصود هنا تجدونه في نهاية هذه التدوينة¹ ومن اللافت فيه أنه غنى الواكدي في مقام “هيبة” خلافاً لمعهود المتأخرين، ولذلك حديث آخر إن شاء الله في سياق إثبات “اعتباطية” العلاقة بين لبتوته واظهورت ازوان، مثل اعتباطية ربط تلك اظهورة ببحور الشعر العربي، وهو ما كتبتُ عنه سابقاً²)

وهناك طلعة أخرى من الواكدي يَستشهد بها أولئك الأدباء لأن بعض رواياتها مضطربة، لكن الرواية الأصح من بين المتداول هي:

الشر افرظْ يَ ويل اللفّاگ َ(10) والناس تخدمْ، والاّ مَفات لاگ َ (10) لهروب الا گبل انحيرت الناگ َ (10) واِيلَ راد الحي الناشي (8) مزال انهار بين نحنَ وْ بَخْواگ َ (10) حزّازنَ ابليس ما معاهْ غاشي (8)

وهناك أيضاً أمثلة أخرى لم يقع الاضطراب في رواياتها المتداولة، مثل الطلعة الشهيرة (لبلاك بالحلفَ غلظلو افتيلك..) وغيرها..

ويتبين من هذا أن الواكدي بت منسق مع نفسه، وله شخصيته العَروضية الخاصة المتميزة عن امريميدة وبوعمران، مهما وجدنا منه روايات مضطربة هنا أو هناك.

وبالمناسبة: يمكن اشتقاق “بت” جديد من بت قديم أو اثنين دون أن نصف البت القديم بأنه غير موزون، وقد وقع هذا كثيراً في ابتوتت لغن.. (كاشتقاق اسغير من تكادرين، والمشكل من لبتيت الناقص وحثو اجراد، وربما لبتيت الناقص من لبتيت التام…وهكذا)


أما اطلع الرسلات، وهي الأهم، إذ اللبس في شأنها أكثر، فيرى بعض الأدباء المعاصرين أيضاً أنها من ما يسمونه “موماية الواكدي” وذلك لاضطراب وزن تلك اطلع في رأيهم، وأنها تُحكىٰ غالباً في اكحال كر.

وهذه الطلعْ قالها الفنان سيد احمد ولد آوليل، في مدح سيد احمد ول المختار، الزعيم لمباركي المعروف، وتبدأ جميعاً هي وگافها بـ”رسلت..” لذلك يسميها البعض “الرسلات” أو “ارسَلْ”:

رسْلْت ازعيم اولاد اُدَيْ/ تحـْـفْل انظيم الدَوّايَ
گطْعـْـت امعاه اعناد الدَّيْ/ وكانْ مگطوع افْ لُدايَ

رسْلْت اَرْجَل خيل الدَيْـگ َ/ لارْجُ بطنگ النيگ َ بينْ لعيون ؤ طربَيگ َ / لاهلْ عَين الفتح اروايَ ولّْ شيخ اعرب گنديگ َ/ وولّْ شيخ اعرب بُظايَ

رسْلْت الضرغام الهَزْبَرْ/ لارْجُ باسْخاه اتخبَّرْ
باشْ عنْ نظْراهْ اتكبّرْ/ شادّ العهد الْ لُولايَ بَـ الفْ من لعرب مُعَبَّرْ/ كانْ ظَل الدمّ اشْلايَ …إلخ

(هذه رواية ولد عوة وسيد احمد ول احمد زيدان، وأضرابهما من أهل آوليل)

ولا شك أن هذه اطلع كلها من بوعمران، وأمرها واضح جداً لمن تأمّل..

لكن لماذا التبست على بعض الأدباء؟

السبب قريب، وهو أن بعض التيفلواتن في هذه اطلع (خصوصاً التافلويت الأولى من كل طلعة) يمكن أن تـُـقرأ بطريقتين: تكون بإحداهما من لبتيت التام، وبالأخرى من بوعمران..

لنأخذ مثلاً التافلويت الأولى من الگاف: “رسْلْت ازعيم اولاد اُدَيْ” فلو قطعناها (للتوضيح فقط، وإلا فإني أمقت التقطيع) سنجدها

ابتيت: رَ- سِلْ- تِزْ- عِي- مَوْ- لا- دُو- دَيْ

بوعمران: رَسْلْ- تِزْ- عِي- مَوْ- لا- دُو- دَيْ

وفي حال قراءتها على أنها من بوعمران سنجد ثقلاً في كلمة “رسْلْت” لالتقاء ساكنين حيين، ومثلها الكلمات التي تبدأ بها التيفلواتن الأخرى في الگاف (تحـْـفْل انظيم، گطْعـْـت امعاه) أما بقية اطلع فلا يوجد فيها من ذلك إلا كلمة “رسلت” في بداية كل منها تقريباً..

ومن المعروف أن گدعة بوعمران لا تكون سلسة إذا لم تتألف من حرف مضعّف، أو لم يكن أولُ ساكـنَـيْها حرفَ علة (ألف، واو، ياء)** أو بعضَ أحرف الإدغام (كالنون: كنـْـتْ گبلو تاركْ لغنَ)… ونحو ذلك

والثقل أو عدم السلاسة لا يعني طبعاً انكسار الوزن أو تغيّرَه بالضرورة، وهذا النمط من الگدعات القائمة على ساكنين حييْن موجود بكثرة عند الأقدمين، أما المعاصرون فيتجنبونه في الغالب..

ومن أمثلتها في أدب الأقدمين قول الأمير محمد ولد امحمد شين في قطع سائرة:

نجْعْ لعنايَ والتشطاطْ/ سوحْل ابمبروم الليَّ و كالْ ساحلْ عكلتْ لَـنباطْ/ و كالْ تل المدّاحيَّ

و نجْعْ رفعتْ مسْلمْ مظلومْ/ شامْ من درگل لادرّومْ …إلخ

فكلمة “نجْعْ” التي تكررت هنا يلتقي فيها ساكنان حيان، وذلك غير سلس، لكن الوزن يظل صحيحاً في بوعمران، رغم إمكان قراءة بعض تلك التيفلواتن على أنها من لبتيت التام إذا حرّكنا أحد ساكنيْ الگدعة.. مثلاً:

نَ- جِعْ- لعْـ- نا- يَ- والتْـ- تشْـ- طاطْ (8)

وينبغي الانتباه إلى أن سلاسة الموسيقى (السلاسة وليس مجرد صحة الوزن فذلك محسوم) تترسخ أكثر عند المتأخرين بحكم انتقائهم الأفضل والأوقع من بين جميع الاحتمالات الموسيقية الصحيحة التي توصل إليها الأقدمون (المتأخر أتم نظراً) وقد وقع هذا في الشعر العربي، فهناك إيقاعات عَروضية كانت حاضرة في شعر الأقدمين، مثل قبض مفاعيلن في حشو الطويل لتصبح “مفاعِلن”، أو طي مستفعلن في البسيط لتصبح “مستَعِلن”، وغيرها، لكن تلك الإيقاعات اختفت تدريجياً أو كادت، رغم صحة وزنها وتواتر استعمالها لدى شعراء الجاهلية..

ثم إن غناء اطلع الرسلات في اكحال كر لا يعني أنها ليست من بوعمران، فاكحال كر يغنى فيه أحياناً لبتيت التام گاع! (گد اللي فيه ابرگ يلمع، يا رب أراش وتنگراش…) ولا يُخرجه ذلك عن كونه لبتيت التام.. مع أنه ليس غريباً أن يغني الفنانون بوعمران في اكحال كر، إذا كان مدحاً أو فخراً (ما يگدو يوفو لفّام، دير فيدك بنّ انتماس…) تماما كإزاحة امريميدة أحياناً من اكحال كر إلى ابياظ كر مثل اطلع (لخلاك مارات الطربة..) وهي عند كثير من الفنانين مجرد “جناس” لـ لعسيري وليست شاهداً، ولكن لأنها خرجت عن نمط امريميدة المعهود في الفخر والحماسة أزيحت إلى ابياظ مكة، وهناك من الأقدمين من يغنونها في ابياظ انتماس أيضاً، ومثلها (گفات ظرك العرْبية..) تغنى كثيراً في ابياظ كر لأنها مرثية، وغيرها..


*في ما يتعلق بغموض الموسيقى: كثير من الناس قد لا يستوعبون موسيقى بعض هذه لبتوته الطويلة، أو لا يستحسنونها، فيرونها غامضة أو ثقيلة، وقد وقع ذلك أيضاً في ابتوته قصيرة نسبياً مثل التيدوم، الذي يمكن أن نصفه بـأنه “منسرح لغن” من حيث موسيقاه، فكثير من الأدباء لا يستعذبونه، فضلاً عن عموم الجمهور، وذلك ما أدى إلى قلة النصوص من هذا البت.. كما أدى إلى اضطراب في رواية بعضها، ومن أشهر ما وقفت عليه من أمثلة ذلك: ما وقع في شاهد “انترش” الثاني الذي أنشأه سدوم ول انچرتو مدحاً للأمير امحمد شين ولد بكار ولد اعمر، إذ يرويه كثير من الفنانين:
“يالله اتعين امحمد شين” وهذا من لبتيت وليس من التيدوم، والواقع أن الرواية الصحيحة هي:
“يَ اللّ عِين امحمد شين” وهذه الرواية رغم صحتها أقلُ تداولاً، وإن كانت هي المعتمدة لدى بعض أحفاد سدوم. وفي تافلويت أخرى من اطلع انترش يقول البعض: “تَعْگــَـبْ فايدين التقيِّينْ” (8) والصواب: “تَعْگــَـبْ ف ايد التقيِّينْ” (7)

** لحسن موسيقى المد في گدعة بوعمران، ولكثرة استعمال “يا” النداء فيه عند أساطين لغن، خصوصاً في أغراض النسيب والغزل والاستسقاء وغيرها مما يناسبها، أصبح بعض لمغنين يظنون أن ياء النداء تلك شرط لازم في بوعمران، فقال أحد كبار الأدباء منتقداً ذلك: “إگد حد إغني افبوعمران ما عَيّط!”

¹ رابط المقطع بصوت الفنان اعل ولد ايده https://goo.gl/XPKA3M

² في تدوينة: الوافر المفترى عليه بسبب اكحال كر- عن علاقة بحور الشعر العربي بالموسيقى الموريتانية https://goo.gl/BrkSJL

المصدر : صفحة الكاتب

اقرأ أيضاً

ديوان شعر القاضي محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري
7 أبريل 2021
إعلان
إعلان
جميع حقوق التأليف والنشر محفوظة لأصحابها © 2022

رسالة الموقعتواصل معنامواضيع