الرئيسيةأدب وفنفكر و سياسةتاريختغريداترواقتواصل معنا

ماذا ينبغي أن يكون خطابنا للغرب؟

محمد إلهامي
محمد إلهامي
30 أكتوبر 2020
 ماذا ينبغي أن يكون خطابنا للغرب؟

في كل موقف يخصّ الأمة تجد بعضا من الناس الباردين العقلانيين الذين يزعمون لأنفسهم الحكمة والفهم والثقافة يدين ويستنكر ما فعله المسلم، ويدخل في عملية «ولادة قيصرية» كي يجعل العمل الطبيعي المتوقع -فضلا عن العمل الفدائي البطولي- جريمة وتطرفا وتهورا!!

ظهر هؤلاء طبعا في حادثة قتل الشاب الفرنسي لمدرس عرض رسوما تسيء لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأمطرونا بـ «حكمتهم» وبرودهم! وبعضُ أولئك لما رأى كلامه مستنكرا مرفوضا اعتبر الذين رفضوا كلامهم دواعش يسكنهم الفكر الداعشي، ولم يتردد في حظرهم والتخلص من أصواتهم!!!

وهكذا مارس من على الفيسبوك، وهو الحكيم العاقل المثقف الواعي، أقصى صور الرفض التي في يده: الحظر والحذف!!

قد كان يمكن أن نتشكك في أنفسنا، لو أننا نجد لهؤلاء ذات يوم موقفا ثوريا، موقفا فيه جسارة وإقدام، واختيار للخيار الأصعب ذي الكريهة.. ساعتها سنقول: هذا رجل عاقل حكيم، قدَّم الحذر ومارس الانسحاب في موطنه، لأنه قبل ذلك قدَّم الجسارة واختار الكريهة..

إلا أنهم -والحمد لله- كفونا بأنفسهم أن نشك فيهم، فإذا هم لا يتخذون الموقف الصعب أبدا، بل هم على طول الخط أصحاب تحذير وتخويف، وعنايتهم دائما بإدانة ما يفعله المسلم.. فصدق فيهم قول المتنبي:

يرى الجبناء أن العجز عقلٌ.. وتلك خبيئة الطبع اللئيم

دعونا نتجاوز الآن عن أمور مؤثرة في حادثة فرنسا الأخيرة، من قبيل: لماذا قُتِل الشاب ولم يُقدَّم للمحاكمة كما ينبغي أن تفعل دولة قانون؟ وهل الحادث مدبر أم لا؟ وهل مآلاته في صالح المسلمين هناك أم لا؟.. بل سنتجاوز الحديث عن الحكم الشرعي في قتل سابّ النبي أيضا.

دعونا نركز على مسألة واحدة، وهي: ماذا ينبغي أن يكون خطابنا للغرب في مثل هذه المواقف؟ وماذا ينبغي أن يسمع منا الغرب إزاء تلك الحوادث؟

لا سيما وأن بعضنا يدين ويستنكر باللغة العربية وفي البيئة المسلمة، فصوته لا يصل أساسا للغربيين ليحقق مقصوده في وصف نفسه بالاعتدال وتخفيف غلوائهم عن المسلمين هناك (هذا إن كان يخفف غلواءهم شيء!).. فلا يحصد من هذا إلا إشعال معركة في الواقع الإسلامي والعربي وحسب!

(1)

نحن أمة غلبها الغرب، واحتلها، ونصب عليها عملاءه حُكَّامًا، ودمَّر مؤسساتنا الدينية واستقلالها، فصارت مؤسساتنا الدينية حكرا على من كان عميلا مخلصا للحاكم، وهكذا: ليست لنا لا دولة ولا خليفة نلتزم بأمره، ولا حتى بقيت لنا مؤسسة دينية محترمة تمثل مرجعية للمسلمين يثقون فيها.

وفي مثل هذا الحال، فمن ينطلقون لأي عمل من تلقاء أنفسهم لم يكن على المسلمين أن يتحملوا وزرهم، وربما أيضا: ولا أن ينالوا نصيبا من فخارهم.

ولهذا، عزيزي المثقف البارد الحكيم، أنت كمن يحرث في الماء أو يرسم على الهواء، هذا إذا صدَّقنا أصلا أن لك وزنا وتأثيرا، فأنت كالذي يحاول أن يجمع بقوله برادة الحديد التي فقدت المغناطيس الجامع، أو يلملم بهتافه حبات العقد التي تناثرت بعد انقطاع خيطها الناظم!

فالأفراد، وعموم الناس -يا عزيز المثقف الحكيم البارد- ليست لهم مثل حكمتك وعقلك وثقافتك (إذا وافقنا جدلا أن لك نصيبا من هذا)، وإنما هم عوام، تحركهم العاطفة، ويجيبون الفعل برد فعل تلقائي مباشر كما هي فطرة الناس.. فكل الناس يدخلون أحيانا معارك غير متكافئة إذا مُسَّت أمورٌ هي حساسة عندهم وغالية عليهم.

فإذا صحَّ أنك حكيم مثقف عاقل، فينبغي أن تتوجه بخطابك إلى “الدولة” التي تسمح باستفزاز الناس والإساءة إلى مقدساتهم، لأنه إذا كنَّا لا نملك التحكم في عواطف عموم الناس وحركتهم -لخلوهم من العقل والحكمة والثقافة التي تتمتع بها- فليكن خطابنا إلى الحكماء والعقلاء والمثقفين الذين يديرون الدولة ويجب عليهم أن يحسبوا حساب ردود الفعل على قرارتهم المستفزة.

(2)

إذا حاولنا تقريب الصورة للعقل العلماني المعاصر.. فسأضرب مثلا أعتذر عنه مقدما..

إذا رأينا رجلا قد قيَّدَ رجلا آخر وجوَّعه وصار يستفزه بتقريب الطعام الشهي له ثم يحرمه منه، وكانت هذه هي وسيلة تعذيبه، فهو يتمتع ويتلذذ بهذا التعذيب، والمأسور تسيل نفسه توقا لطعام يحتاجه ولا يستطيعه!

فإذا حدث أن تمكن المأسور في لحظة ما من كسر قيده، فانهال على الرجل الذي عذَّبه حتى قتله.. فإلى مَنْ نتوجَّه باللوم؟ ومن الذي أساء ومن هو المعذور؟!

بل والله -وأزيد اعتذارا فوق اعتذار- لو رأينا رجلا يفعل هذا بكلب، ثم انفلت الكلب فقتله لما كان لأحد أن يستنكر أو يشمئز مما فعل الكلب، بل سنرى أن صاحب القلب المتوحش هذا قد لقي جزاءه.

ولا شك أن الجميع مرَّ بمقاطع مرئية فيها مثل هذا أو بعضه.

أكرر الاعتذار مرة ثالثة في أني أحاول تقريب الصورة من خلال هذا المثال السخيف.. ولكن لم أجد أحسن منه لأحاول القول بأن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم هو عند كثير من المسلمين عملا شديد الاستفزاز ولا يُحتمل.

وهذا بالتحديد ما يفتقده أولئك الحكماء المثقفون الباردون الذين يحسبون أن قدر النبي في قلوب الناس كقدره في قلوبهم.. لستَ ترى منهم حميَّة ولا غيرة ولا رد فعل يخبر عن أن نفوسهم تنطوي على حب لمحمد صلى الله عليه وسلم.

فما يجب أن يسمعه الغرب منا، أن المسلمين يحبون نبيهم حبا جما، وأنه لا سلطان لأحد على مسلم إذا اندفع فقتل من سبَّ النبي أمامه، حتى لو كانت لهم دولة وخلافة، وحتى لو كانت لهم مؤسسات دينية مرموقة وتمثل مرجعية.. إنه أمر يستثير المسلم استثارة لا يملك معها أن يقوم بحسابات العقل والمآلات والمصالح والمفاسد (هذا أمر ربما تقوم به الدول والأحزاب والجماعات والمؤسسات)، وعليه: فإما أن تغلقوا بلادكم عليكم فتسبون النبي كما تحبون فلا يسمع بكم مسلم ولا يتأذى منه، أو أن تفتحونها وتلتزمون بعدم المساس بمقدسات الناس!!

وقد أخبرنا النبي أنه سيأتي من بعده قوم يحبونه حتى إن أحدهم ليضحي بأهله وماله مقابل أن يرى النبي، كما في البخاري ومسلم.

لكن خطابات هؤلاء الباردين المثقفين الحكماء تريد من المسلمين أن يتلقوا كل الإهانات بابتسامة جميلة، أو حتى بنضال قانوني طويييييييل، وبهذا يكون مآل خطابهم فعليا أن يُفتح الباب لسب النبي صلى الله عليه وسلم عريضا فسيحا.

(3)

إذا قرأت لأولئك الباردين ظننتَ دائما أن التاريخ يبدأ من هذا الحادث الذي ارتكبه مسلم!! كأنه لم تكن هناك عداوة سابقة، ولا أن هذا المسلم يعيش مناخا هو فيه مقهور مضطهد مضيق عليه!

وإذا بعصر السلام والطمأنينة والحرية سينهار بهذا الحادث الذي ارتكبه مسلم!

هل ما زلتم تظنون أن الغرب يحتاج إلى تبرير ليفعل ما يريد؟!

ولو صدَّقنا أنه يحتاج إلى تبرير، فهل سينتظر من مسلم أن يقوم بالفعل الذي هو تبرير، أم أنه سيصنع هذا الحادث ويختلقه اختلاقا، لكي يبدأ به تنفيذ الخطة التي ينوي فعلها؟!

ففي كل الأحوال، حديث هؤلاء الباردين المثقفين الحكماء لا قيمة له بأي معنى، فلو كانت فرنسا تنوي شيئا لفعلته بلا تبرير، ولو أرادت تبريرا لاختلقت الحادث ودبرته.. ولم يعد الأمر متعلقا بوجود تطرف أو تشدد لدى بعض المسلمين! بل بوجود إرادة داخل السلطة الفرنسية!

ولهذا فحديث أولئك الباردين لا يفعل إلا أنه يشعل معركة داخلية في البيئة المسلمة، ويُبَرِّد من حب النبي في قلوب المسلمين، ويعلم المسلمين الخنوثة والهوان والصمت على الأذى مهما بلغ.. ويقال: تلك هي الحكمة!

ألا بئس الحكمة! وبئس العقل! وبئس الهوان!


اقرأ أيضاً

مختارات من كتابات أحمد القاري حول الفرنسة
27 دجنبر 2021
إعلان
إعلان
جميع حقوق التأليف والنشر محفوظة لأصحابها © 2022

رسالة الموقعتواصل معنامواضيع